لا يختلف الكثيرون في أن عقوبة السرقة الواردة في القرآن الكريم هى قطع
اليد، ولكن إن تمعنت قليلاً في هذا الموضوع ستكتشف أن الأمر قد لا يكون
بهذه السطحية، فهناك تفاصيل لابد من توضيحها.
فمن الأمور التي تحتاج إلى إجابة، أي نوع من السرقات تستوجب هذه
العقوبة! فالسرقات أنواع ودرجات، فهناك من يسرق حافظة نقود، وهناك من يسرق
بنك، بل هناك من يحترف السرقة ويتخذها مهنة، وهناك من سرق مرة واحدة، وبين
هذا وذاك توجد درجات وصور آخرى متعددة!
وماذا عن القطع فهل هى اليد الواحدة أم الإثنين، وهل ذلك يخص الكف أو اليد كاملة..!
الثواب والعقاب عند الله تعالى درجاتيثبت القرآن الكريم في مواضع متعددة أن الله سبحانه وتعالى ليس بظلام للعبيد
(ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)) سورة الأنفال
﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)﴾ سورة ق
كما أن الله سبحانه وتعالى عنده أساس العدل والحساب عنده على قدر العمل
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾ سورة الزلزلة
إذن
فأمر العدل عند الله تعالى أمر لا شك فيه. وإن عدنا لقطع يد السارق، فإنه
من الإستحالة أن يكون المقصود مساواة من يحترف السرقة ويتخذها مهنة مع من
سرق مرة واحدة، أو في تنوع درجات السرقات أن تكون العقوبة واحدة وهى قطع
اليد كما يتعارف عليها الناس الآن.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]معنى القطع في القرأن الكريممن يتدبر القرآن ويبحث عن المقصود من وراء بعض التعبيرات القرآنية أعتقد أنه لابد أن يجتهد لمعرفتها كالتالي:
ـ مقارنة الكلمة بمثيلاتها إن جاءت في مواضع آخرى من النص القرآني
ـ مراعاة السياق الذي وردت فيه الكلمة، ففي بعض الأحيان تأتي الكلمة بعدة معاني، وسياق الموضوع هو الذي يحدد أي معنى تحمله
ـ مراعاة الصفات العامة للرسالة السماوية وما تحمله من قيم
أما عند البحث عن معنى قطع اليد في مواضع آخرى من القرآن الكريم، فستجد أن هذا التعبير جاء في النص التالي بمعنى جرح اليد الحسي
﴿
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ
لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ
اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)﴾ سورة يوسف
وجاءت كلمة القطع أيضاً بمعنى ربط الأيدي والأرجل خلف الظهر أثناء عملية الصلب في النص التالي
﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)﴾ سورة الشعراء
كما جاء فعل القطع في مواضع كثيرة بمعاني آخرى، فجاء تعبير قطع دابر فلان بمعنى إنتهاء الحياة
﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)﴾ سورة الآنعام
وجاء تعبير قطع السبيل بمعنى منع السير بغرض السطو بالإكراه
﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ (29)﴾ سورة العنكبوت
ومن هذه الأمثلة نرى أن قطع اليد قد تكون أحد المعنيين لا ثالث لهما:
ـ قطع اليد الحسي أي الجرح
ـ قطع اليد المعنوي أي منعها، مثل تعبير قطع الدابر، أو قطع السبيل في القرآن الكريم،
وبعض التعبيرات المستعملة بين الناس مثل قطع الرزق عن فلان، أو قطع رجل فلان عن المكان بمعنى منعه عن المكان.
معنى اليد في القرآن الكريمأما كلمة اليد فقد جاءت في القرآن بمعنى اليد العضو الحسي في الجسد
﴿
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ
حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)﴾ سورة يوسف
أو معنى غير حسي بل معنوى المراد به الإرادة أو القدرة
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (10)﴾ سورة الفتح
﴿ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)﴾ سورة الحديد
عقوبة السرقة في القرآن ولو تأملنا النص التالي الذي يحتوي على عقوبة السرقة
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)﴾ سورة المائدة
ومما
طرحناه من الأمثلة السابقة من النصوص القرآنية فمن الخطأ أن يتم الجزم هنا
بأن قطع اليد هو قطع حسي والمقصود منه البتر، فقد وردت جملة تقطيع الأيدي
في سورة يوسف بمعنى جرح الأيدي.
أو قد يكون قطع اليد هنا هو معنوي المقصود به السيطرة على السارق أو السارقة والمنع من السرقة.
كما أن معنى اليد قد يكون المراد به الإرادة أو القدرة، وخاصة أن كلمة أيديهما (
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)
جاءت هنا بصيغة الجمع العائد على المثنى السارق والسارقة، فليس لكل من
السارق وللسارقة عدة أيدي، فإن كان المقصود اليدين الحسيتين اليمين والشمال
لجاء النص كالتالي (فاقطعوا يديهما) أي مثنى عائد على مثنى، ولكن الكلمة
جاءت أيدي بصيغة الجمع وهو ما يدل على أن المقصود هنا اليد المعنوية أي
الإرادة والقدرة كما جاءت في مواضع آخرى كثيرة في القرآن الكريم.
ولو أخدنا في الإعتبار أنواع السرقات وتعدد أحجامها وتنوع حالات السارق
نفسه بين محترف وممتهن للسرقة وآخر سرق لمرة واحدة. وعِلمنا الذي لا شك فيه
أن الله تعالى صاحب العدل المطلق يعطي الجزاء بقدر العمل.
فلا يمكن أن يكون جزاء كل سارق وسارقة هو بتر اليدين كما حاول البعض تسويقه وإقناع الناس به على مر العصور أنه شرعاً لله تعالى.
الخلاصةالمعنى المستقيم الملائم لعدل الله تعالى وما ورد من أمثلة عن معنى
القطع واليد في القرآن الكريم، هو أن قطع يد السارق هو معنوي والمراد به
السيطرة على إرادته ومنعه من السرقة.
وهنا ترك الله تعالى للبشر حرية
إيجاد قانون العقوبة المناسب على حسب حجم جريمة السرقة وحالة القائم
بالسرقة إن كان محترفاً أم غير ذلك. فيكون الجزاء على حسب العمل، وتكون
العقوبة على سبيل المثال الحبس أو النفي أو الإيذاء أو توفير العمل ذو
الأجر المناسب.
والله تعالى أعلم