رجال الساموراي والإخلاص الوظيفي

قد لا نضيف جديدا ً عندما نتحدث عن الشعب الياباني كأمة عظيمة وشعب مثالي،
عاش مختلف الظروف والمحن، وخرج منها جميعا ً أصلب عودا ً وأقوى شكيمة. وهذا
الأمر لم يأت ِ من فراغ بل استند الى ثقافة روحية واجتماعية عميقة الجذور،
تبلور الى قيم انسانية وسلوكيات حضارية معاصرة. وكان لثقافة الساموراي
وما تمثله من روح التسامح والإيثار، ومن مفاهيم مجتمعية وتربوية الأثر
المباشر في دفع عجلة التنمية بالبلاد وإذكاء روح التنافس فيها. وكلمة
(سامراي) تعني في اللغة اليابانية، بعد أن اصطبغت ببعض التعاليم
الكونفشيوسية، الرجل الذي يضع نفسه في خدمة الآخرين، والساموراي هو اللقب
الذي يطلق على المحاربين القدماء في اليابان.وبالرغم من انتهاء دورهم
القديم، فقد استمر رجال طبقة الساموراي في لعب الأدوار القيادية في
اليابان، وشكلوا ما عرف بالنخبة الحاكمة واستمروا في حكم البلاد حتى نهاية
الحرب العالمية الثانية. وقد خرج من بينهم مؤسسو الشركات الصناعية الكبرى
والمصارف التجارية في اليابان. كما كان لهم دور كبير في تحويل اليابان إلى
قوة صناعية. ولعل من أهم الفضائل التي تتميز بها ثقافة الساموراي التي
تركت اثرها في الشعب الياباني عموما، هي فضيلة الإخلاص في العمل، فالفضيلة
في اليابان تنبع من ما يقدمه الشخص لخدمة مجتمعه،وعليه التخلص عن كل شيء
يتعارض مع مصلحة الجماعة.
ويقول شاعر ياباني في هذا الصدد (إذا خدم قلبي الجماعة فإن الآلهة ستحرسني
بالرغم من نسياني الصلاة لها). وهذا المبدأ رسخ قوة الانتماء الوطني
والشعور العالي بالمسؤولية، فمعروف عن الشعب الياباني الانضباط العام،
والاهتمام بالقيم والاعراف الوطنية، وحب العمل.
وهذا ما يفسر ايضا وجود خمس عشرة كلمة مرادفة لكلمة عمل في اللغة
اليابانية، وكلها تدعو الى الاخلاص والتفاني في العمل. ويوصف الرجل
الياباني بأنه يتزوج الشركة التي يعمل بها، فوظيفته مضمونة مدى الحياة مهما
بلغت ظروف الشركة من سوء، ما أعطى الشعور للموظف الياباني بالأمان، حتى أن
بعض الشركات تجعل الموظفين يغنون انشودة الشركة في الصباح تمامأ كأنه
النشيد الوطني. وقد وصف استاذ مصري اخلاص وهمة العامل والموظف الياباني في
اداء عملة بعد اطلاعه على واقع التطور الياباني وأسبابه، وانبهاره بما
شاهده بالعبارة التالية (أن همة توجه العامل الياباني بالذهاب الى عمله
تشبة همة العامل المصري عند مغادرته لمقر عمله). ومن الطبيعي جدا ان تسمع
وتشاهد في كل مكان شعار(العمل معاً) وهو شعار الإدارة في اليابان، أي أن
الإدارة تعمل بدأ بيد مع العمال، وسبب تفوق اليابانيين هو عدم إنعزال
الإدارة العليا عن العمال. وليس غريبأ أن تجد رئيس الشركة أو مالكها وبيده
مكنسة ليمسح الأرضيات وينظف الحمامات او يعد الشاي والقهوة للعمال.
وقد برز هذا الإيثار بشكل جلي من خلال الكارثة التي ألمت بالشعب الياباني
مؤخرا ً، والمتمثلة بالزلزال المدمر الذي وقع في الحادي عشر من آذار
الماضي، الذي تسبب في انفجارات مهولة بالمفاعلات النووية في محطة فوكوشيما،
وذلك عندما خاطر اربعمائة من ابطال فوكوشيما من العاملين في هذه
المفاعلات بحياتهم من أجل منع حدوث كارثة نووية في بلادهم، فقد استطاعت هذه
المجوعة من العمال إلى الدخول وسط المفاعلات، لتوصيل الكهرباء إلى الآليات
التي تعمل على تبريد المفاعلات. و هذا الأمر يعد خطوة نحو الموت، لأن
الإشعاعات النووية بلغت ذروتها و انتشرت في كل مكان. وكانت تفاصيل حياتهم
اليومية داخل هذه المفاعلات تظهر عظمة هؤلاء العاملين، فهم ينامون على فرش
من الرصاص، ويتغطون بغطاء واحد،، وطعامهم قطع من البسكويت، والأهم من كل
ذلك أنهم يعرضون أنفسهم يوميا لإشعاعات عالية في كفاحهم الصعب لتطويق
الحادث الذي تعرضت له محطتهم. وقد كتب احدهم رسالة أرسلها بالبريد
الالكتروني يقول فيها: (موجة التسونامي جرفت أهلي والى الآن لا اعرف
وضعهم)، أما زميل له فقد كتب (البكاء هنا لا طائل منه فطالما نحن موجودون
هنا في جهنم فان الشيء الوحيد الذي يمكن لنا أن نفعله هو أن نحفر بأظافرنا
كي نصعد الى السماء). وفي هذه الأجواء التي امتزجت فيها البطولة والإيثار
بالواجب الوظيفي، وبالرغم من كل التحذيرات التي تلقوها من قبل الجهات
المختصة والتي طلبت منهم ترك العمل إلا انهم رفضوا ذلك وفضلوا الاستمرار في
اداء واجبهم الوظيفي ، وقد عقب المسؤول على هذه المحطة على قول أحد
الصحفيين عندما وصف العاملين في محطة فوكوشيما بالأبطال قائلا (لا تجعلوا
من هؤلاء العاملين أبطالا، انما هم يؤدون واجبهم الوظيفي). وهنا تكمن
العظمة، فالواجب الوظيفي يمكن ان يكون بطوليا،وقد لا يختلف عن الواجب
الوطني،بل هو بالعرف الياباني يفوق الواجب الوطني.
مانريد الوصول اليه من استعراض كل هذه الدروس والتفاصيل لتجارب هذا الشعب
العظيم الذي تعرض الى هذا الكم الهائل من الكوارث والمحن ‘ هو للاستفادة من
تلك التجارب، فكثيرا ما تسوق لنا حقائق التاريخ تجارب أمم وشعوب حقق
أبناؤها نجاحا باهرا بمختلف القطاعات وشتى المجالات، وهذا عائد إلى اتسام
أبناء تلك الحضارات بروح الجدية وصـدق الإمانة وحقيقة الإخلاص لتصبح نهضتها
نموذجا فريدا في معاني التقدم والإزدهار. ولعل تجربة اليابان خير شاهد
لهذا في وقتنا المعاصر، ففي الوقت الذي خسرت فيه جميع مقدراتها المادية
والمعنوية في الحرب الكونية الثانية ،بحيث لم يبق لها ما تتكئ عليه من
جديد، إلا انها استطاعت أن تعيد ما دُمر في سنوات قليلة، وهذا يعد انجازا
لم يشهد له التاريخ نظيرا، بل أكثر من هذا أنها جعلت من نفسها مثلا يحتذى
به في مسالك النجاح. ولولا هذا الإخلاص الذي جسدته اليابان في نفوس أبنائها
لما غدت اليوم حاضرة العالم في التقدم العلمي والتكنولوجي، فعملية الإخلاص
الوظيفي التي لازمت العامل الياباني في خدمة بلده كشفت جملة من الحقائق
الإيجابية في ترسيخ هذا المفهوم في بيئة العمل، فالنظام والتنظيم يقضيان
على سوء التخطيط وعشوائية الفكرة.
إن المعجزة اليابانية أظهرت لنا الكثير من المؤشرات التي تستحق ان نتوقف
عندها طويلا، فنتأملها جيدا، ثم نباشر دراستها والبحث في مضامينها بشكل
معمق، لتطبيق ما يمكن تطبيقه في بلادنا. ولعل أبرز هذه المؤشرات يتعلق
بنجاح اليابان في تحويل الهزيمة الساحقة التي منيت بها في الحرب العالمية
الثانية وما رافقها من انكسار نفسي شديد إلى دافع جدي لتحقيق إنجاز اقتصادي
هائل، يعد بحق واحدا من الركائز الأساسية للتجربة اليابانية. كما استطاعت
اليابان أن توائم بين التقاليد الحضارية للمجتمع الياباني وبين الأفكار
والمبادئ المعاصرة، بمعنى انها استطاعت أن تحل مشكلة التوازن بين الأصالة
والمعاصرة، أو بين التقليدية والحداثة في مجال الخبرة والممارسة السياسية
وبالتالي فإن اليابان تقدم أنموذجا يمكن الاستفادة منه في مجال التحديث
السياسي والتنمية السياسية.
خلاصة القول، اليابانيون شعب استحق الحياة بجدارة، والعلاقة معه مفيدة
والتعلم من تجاربه امر يستحق السعي اليه. فهذا الشعب لا يعرف تضييع
الوقت، والجلوس المفرط في المقاهي والفنادق، ولا السهر حتى ما بعد منتصف
الليل. ينامون مبكرين ليستيقظوا في الصباح التالي مبكرين الى العمل، اياً
تكن احوال الطقس، او المناسبة الدينية او الوطنية. ولذا فهم دائماً ما
يحبون أن يصفوا أنفسهم بقولهم (إذا كان العالم يلهو فاليابان تعمل).
وعلى الرغم من ان اليابان لا تملك شيئا، فأرضها جبلية وعرة لا تصلح
للزراعة، ولا وجود فيها لمعادن، وهو عكس ما موجود في العراق، الا ان ثمة
تشابها في التجربة بين الوضع في العراق واليابان فكلاهما خرج من نتائج
حروب كارثية ترتب عليها ما ترتب لذلك نأمل أن يستفيد العراق من تجربة
اليابان في هذا المضمار.على اعتبار ان هذه البلاد قد شهدت انقطاعا ً تاما ً
عن العالم الخارجي قبل عملية التغيير وهو أمر مر بنا مما ولد هوة كبيرة
بيننا وبين هذا العالم المتحضر، وهذا الحال يتطلب منا العمل بجدية ونكران
ذات لردم هذه الهوة. وأعتقد ان أقصر الطرق للوصول الى ذلك يكمن في الأنفتاح
على العالم والإطلاع على تجارب الشعوب الناجحة من اجل تكييفها والأستفادة
منها لا سيما في المجالات التنموية. وبالإمكان التعرف على تجارب عالمية
تشير الى ان هناك دولا وشعوب مرت بحروب وأزمات طارئة إلا انها تمكنت من
عبور تلك الأزمات والوصول الى بر الأمان وبأوقات قياسية بعد أعتمدها النهج
السليم في معالجة وإدارة الأزمات.